سورة الرعد - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


ولما بين سبحانه أنهم غطوا آيات ربهم المتفضل عليهم بتلك الآيات وغيرها، عجب منهم عجباً آخر في طلبهم إنزال الآيات مع كونها متساوية الأقدام في الدلالة على الصانع وما له من صفات الكمال، فلما كفروا بما أتاهم كانوا جديرين بالكفر بما يأتيهم فقال: {ويقول} أي على سبيل الاستمرار {الذين كفروا} استهزاء بالقدرة {لولا} أي هلا ولم لا {أنزل} أي بإنزال أيّ كائن كان {عليه آية} جاحدين عناداً لما أتاه من الآيات {من ربه} أي المحسن إليه تصديقاً له.
ولما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم راغباً في إجابة مقترحاتهم لشدة التفاته إلى أيمانهم، كان كأنه سأل في ذلك لتحصل لهم النجاة، فأجيب بقوله تعالى- مقدماً ما السياق أولى به لأنه لبيان أن الأكثر لا يؤمن-: {إنما أنت منذر} أي نبي منذر هاد لهم تهديهم ببيان ما أنزله عليك مما يوقع في الهلاك أو يوصل إلى النجاة، سائر فيهم على حسب ما أحدّه لك، وأصل الإنذار الإعلام بموضع المخافة ليتقى، لا أنك مثبت للإيمان في الصدور {ولكل قوم} ممن أرسلنا إليهم نبي {هاد} أي داع يهديهم إلى مراشدهم ومنذر ينذرهم من مغاويهم، أي يبين لهم ما أرسلنا به من النذارة والبشارة، وأعطى كل منذر وهاد آيات تليق به وبقومه على مثلها يؤمن البشر، فيهدي الله من يعلم فيه قابلية الهدى بما نصب من الآيات المشاهدات، فلا يحتاج إلى شيء من المقترحات، ويضل من يعلم فيه دواعي الضلال ولو جاءته كل آية، لأنه الذي جبلهم على طبائع الخير والشر {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [تبارك: 14] فهو كقوله تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [فاطر: 24] وكقوله في هذه السورة {ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} والآية من الاحتباك: ذكر المنذر أولاً يدل على حذفه ثانياً، وذكر الهاد ثانياً دال على حذف مثله أولاً.
ولما كان ما مضى مترتباً على العلم والقدرة ولا سيما ختم هذه الآية بهاد، وكان إنكارهم البعث إنكاراً للنشأة الأولى، وكان سبحانه وتعالى يعلم أن إجابتهم إلى ما اقترحوا غير نافع لهم، لأنهم متعنتون لا مسترشدون، شرع سبحانه- بعد الإعراض عن إجابة مقترحاتهم- يقرر من أفعاله المحسوسة لهم المقتضية لاتصافه من العلم والقدرة بما هو كالإعادة سواء إشارة منه تعالى إلى أن إنكار البعث إن كان لاستحالة الإعادة فهي مثل البداءة، وإن كان لاستحالة تمييز التراب الذي كان منه الحيوان- بعد اختلاطه بغيره وتفرق أجزائه- فتمييز الماء الذي يكون منه الولد من الماء الذي لا يصلح لذلك أعجب، لأن الماء أشد اختلاطاً وأخفى امتزاجاً، ومع ذلك فهو يعلمه فقال: {الله} أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة {يعلم} أي علماً قديماً في الأزل بما سيوجد وعلماً يتجدد تعلقه بحسب حدوث الحادثات على الاستمرار {ما تحمل} أي الذي تحمله في رحمها {كل أنثى} أي الماء الذي يصلح لأن يكون حملاً {وما تغيض} أي تنقص {الأرحام} من الماء فتنشفه فيضمحل لعدم صلاحيته لأن يكون منه ولد، وأصل الغيض- كما قال الرماني: ذهاب المائع في العمق الغامض، وفعله متعد لازم {وما تزداد} أي الأرحام من الماء على الماء الذي قدر تعالى كونه حملاً فيكون توأماً فأكثر في جماع آخر بعد حمل الأول كما صرح بإمكان ذلك ابن سينا وغيره من الأطباء، وولدت في زماننا أتان حماراً وبغلاً، وذلك لأن الزيادة ضم شيء إلى المقدار وكثرته شيئاً بعد شيء فيقدر ذلك، ولا يمكن أحداً زيادته ولا نقصانه، وذلك كله يستلزم الحكمة فلذا ختمه بقوله: {وكل شيء} أي من هذا وغيره من الآيات المقترحات وغيرها {عنده} أي في قدرته وعلمه {بمقدار} في كيفيته وكميته لا يتجاوزه ولا تقصر عنه، لأنه عالم بكيفية كل شيء وكميته على الوجه المفصل المبين، فامتنع وقوع اللبس في تلك المعلومات وهو قادر على ما يريد منها، فالآية بيان لقوله تعالى: {الذين كفروا بربهم} من حيث بين فيها تربيته لهم على الوجه الذي هم له مشاهدون وبه معترفون.
ولما كان هذا عيباً وكان علمه مستلزماً لعلم الشهادة، وكان للتصريح مزية لا تخفى، صرح به على وجه كلي يعم تلك الجزيئات وغيرها فقال: {عالم الغيب} وهو ما غاب عن كل مخلوق {والشهادة} قال الرماني: الغيب: كون الشيء بحيث يخفى عن الحس، والشهادة: كونه بحيث يظهر له.
ولما كان العلم والحكمة لا يتمان إلا بكمال القدرة والعظمة قال: {الكبير} أي الذي يتضاءل عنده كل ما فيه صفات تقتضي الكبر، قال الإمام أبو الحسن الحرالي: والكبر: ظهور التفاوت في ظاهر وباهر القدر الذي لا يحتاج إلى فكر، ولذلك كان فطرة للخلق أن الله أكبر، ولما كان لا ظاهر قدر للخلق لما عليهم من بادي الضروريات والحاجات المعلنة بصغير بالقدر، ومن حاول منهم أن يكبر بسطوة أو تسلط وفساد زاد صغار قدره بما اكتسب في أعين أرباب البصائر في الدنيا، ويبدو ذلك منه لعيون جميع الخلق في الأخرى «يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذي يطؤهم الناس بأقدامهم» فلذلك اختصاص معنى أنه لا كبير إلا الله- انتهى. {المتعال} أي الذي لا يدنو- من أوج علوه في ذات أو صفة أو فعل- عالٍ، وأخرجه مخرج التفاعل ليكون أدل على المعنى وأبلغ فيه؛ وقال أبو الحسن الحرالي رحمه الله: والتعالي: فوت التناول والمنال بحكم أو حجة، وأشعر التفاعل بما يجري من توهم المحتجين في أمره بأوهام حجج داحضة {حجتهم داحضة عند ربهم} [الشورى: 16] فهو تعالى يأذن في الاحتجاج والجدال ثم يتعالى بما له من الحجة البالغة {قل فلله الحجة البالغة} [الأنعام: 149] فهو المتعالي علماً وحكماً وحجة، وحقيقة المتعالي الذي لا يتعالى إلا هو- انتهى. والحاصل أنه لما وصف نفسه مما تقدم، أشار إلى أن ذلك على ما تحتمله العقول وأن الحق في وصفه الكبر المطلق والتعالي المطلق، لأن العقول لا تحتمل أكثر من ذلك.


ولما كانت العادة قاضية بتفاوت العلم بالنسبة إلى السر والجهر، والقدرة بالنسبة إلى المتحفظ بالحرس وغيره، أتبع ذلك سبحانه بما نفي هذا الاحتمال عنه على وجه الشرح والبيان لاستواء الغيب والشهادة بالنسبة إلى علمه فقال: {سواء منكم} أي في علمه {من أسر القول} أي أخفى معناه في نفسه {ومن جهر به} وفي علمه {و} قدرته {من هو مستخف} أي موجد الخفاء وطالب له أشد طلب {باليل} في أخفى الأوقات فسارب أو كامن فيه، يظن أن ذلك الاستخفاء يغنيه من القدرة {و} من هو {سارب} أي ذاهب على وجهه الأرض ومتوجه جارٍ في توجهه إلى قصده بسرعة {بالنهار} متجاهر بسروبه فيه، فالآية من الاحتباك: ذكر {مستخف} أولاً دال على ضده ثانياً، وذكر {سارب} ثانياً دال على ضده أو مثله أولاً {له} أي لذلك المستخفي أو السارب- كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما {معقبات} أي أعوان وأنصار يتناوبون في أمره بأن يخلف كل واحد منهم صاحبه ويكون بدلاً منه.
ولما كان حفظ جهتي القدام والخلف يستلزم حفظ اليمين والشمال وكان ملأ كل من الجهتين من الحفظة على المخلوق متعذراً، قال آتياً بالجار: {من بين يديه} أي من قدامه {ومن خلفه} واستأنف بيان فائدة المعقبات فقال: {يحفظونه} أي في زعمه من كل شيء يخشاه {من أمر الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة.
ولما دل هذا على غاية القدرة، وجرت عادة المتمكنين من ملوك الأرض بالتعدي على جيرانهم واستلاب ممالكهم والعسف في شأنهم، زيادة في المكنة وتوسعاً في الملك، ولا سيما إذا كان ذلك الجار ظاناً مع ضعفه وعجزه أن يحفظه مانه من أخذه، أخبر تعالى من كأنه سأل عن ذلك أنه غير هذا لغناه عنه، فقال: {إن الله} أي الذي له الإحاطة والكمال كله {لا يغير ما بقوم} أي خيراً كان أوشراً {حتى يغيروا ما} أي الذي {بأنفسهم} مما كانوا يزينونها به من التحلي بالأعمال الصالحة والتخلي من أخلاق المفسدين، فإذا غيروا ذلك غير ما بهم إذا أراد وإن كانوا في غاية القوة.
ولما كان ملوك الدنيا لا يتمكنون غالباً من جميع مراداتهم لكثرة المعارضين من الأمثال الصالحين للملك، قال تعالى عاطفاً على ما تقديره: فإذا غيروا ما بأنفسهم أنزل بهم السوء: {وإذا أراد الله} أي الذي له صفات الكمال {بقوم} أي وإن كانوا في غاية القوة {سوءاً فلا مرد له} من أحد سواه، وقد تقدم لهذه الآية في الأنفال مزيد بيان.
ولما كان كل أحد دونه في الرتبة لا إمكان له أن يقوم مقامه بوجه، قال: {وما لهم} وبين سفول الرتب كلها عن رتبته فقال: {من دون} وأعرق في النفي فقال: {من} ولما كان السياق ظاهراً في أنه لا منفذ لهم مما أراده، أتى بصيغة فاعل منقوص إشارة إلى نفي أدنى وجوه الولاية فكيف بما فوقها فقال: {وال} أي من ملجأ يعيذهم، بأن الفعل معهم من الإنجاء والنصرة ما يفعل القريب مع وليه الأقرب إليه، ثم أخبر تعالى بأمر هو أدلة ما قبله جامع للعلم والقدرة وهو ألطف من ذلك كله، معلم بجليل القدرة في أنه إذا أراد سوءاً فلا مرد له، ودقيق الحكمة لأنه مظهر واحد ترجى منه النعمة وتخشى منه النقمة فقال: {هو} أي وحده {الذي يريكم} أي على سبيل التجديد دائماً {البرق} وهو لمع كعمود النار {خوفاً} أي لأجل إرادة الخوف من قدرته على جعله صواعق مهلكة، والخوف: انزعاج النفس بتوهم وقوع الضر.
ولما لم يكن لهم السبب في إنزال المطر، لم يعبر بالرجاء وقال: {وطمعاً} أي ولأجل إرادة طمعكم في رحمته بأن يكون غيثاً نافعاً، ولا بد من هذا التقدير ليكونا فعل فاعل الفعل المعلل، ويجوز أن يكون المعنى: يريكم ذلك إخافة وإطماعاً فتخافون خوفاً وتطمعون طمعاً، فتكون الآية من الاحتباك: فعل الإراءة دال على الإخافة والإطماع، والخوف والطمع دالان على «تخافون وتطمعون» ويجوز أن يكونا حالين من ضمير المخاطبين أي ذوي خوف وطمع {وينشئ} والإنشاء: فعل الشيء من غير سبب مولد {السحاب} وهو غيم ينسحب في السماء، وهو اسم جنس جمعي، واحده سحابه {الثقال} بأنهار الماء محمولة في الهواء على متن الريح؛ والثقل: الاعتماد على جهة الثقل بكثافة الأجزاء {ويسبح الرعد} أي ينزه عن صفات النقص تنزيهاً ملتبساً {بحمده} أي بوصفه بصفات الكمال، ويروى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الرعد ملك وإن لم يصح أنه ملك فتسبيحه دلالته على أن موجده سبحانه منزه عن النقص محيط بأوصاف الكمال {والملائكة} أي تسبح {من خيفته} قال الرماني: والخيفة مضمنة بالحال، كقولك: هذه ركبة، أي حال من الركوب حسنة، وكذلك هذه خيفة شديدة، والخوف مصدر غير مضمن بالحال. {ويرسل الصواعق} المحرقة من تلك السحائب المشحونة بالمياه المغرقة؛ والصاعقة- قال الرازي: نار لطيفة تسقط من السماء بحال هائلة. {فيصيب بها} أي الصواعق {من يشاء} كما أصاب بها أربد بن ربيعة {وهم} أي والحال أنهم مع ذلك الذي تقدم من إحاطة علمه وكمال قدرته {يجادلون} والجدال: فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج {في الله} أي الملك الأعظم بما يؤدي إلى الشك في قدرته وعلمه. ولما كان لا يغني من قصده بالعذاب شيء قال: {وهو شديد المحال} لأن المحال ككتاب: الكيد وروم الأمر بالحيل والتدبير والمكر والقدرة والجدال والعذاب والعقاب والعداوة والمعاداة والقوة والشدة والهلاك والإهلاك، يأتي أعداءه بما يريد من إنزال العذاب بهم من حيث لا يحتسبون، وكلها صالح هنا حقيقة أو مجازاً، وقال الرماني: والمحال: الأخذ بالعقاب من قولهم: ما حلت فلاناً إذا فتلته إلى هلكه- انتهى.
ومادة محل بجميع تقاليبها تدور على صرف الشيء عن وجهه وعادته وما تقتضيه جبلته، وذلك يستلزم القدرة والقوة والشدة، فالحامل يمسك المحمول بقوته عن أن يهوي إلى جهة السفل، والحملة: الكرة في الحرب، ويلزم الحمل المشقة، ومنه تحمل الشيء وحمل عنه أي حلم فهو حمول: ذو حلم، والحميل- كأمير: الدعي والغريب- كأنهما محمولان لحاجتهما إلى ذلك، والكفيل، لأنه حامل لكل مكفول واحتمل لونه- للمفعول: غضب وامتقع- كأن الغضب صرفه عما كان من عادته، والمحمل- كمحسن: المرأة ينزل لبنها من غير حبل، لأن ذلك شيء على غير وجهه، والحمل- محركة: الخروف- لسهولة حمله، والحليم: من يحبس غيظه بقوة حلمه- أي عقله- عن أن يستخفه الغضب، والحلم- بالكسر: الأناة والعقل، والحلم- بالضم وبضمتين: الرؤيا، لأنها صرف النفس عما هي عليه، وهو من شأنها من الغفلة، ومنه الحلم- بالضم- والاحتلام للجماع في النوم، والاسم الحلم- كعنق، وذلك يكون غالباً عند فراغ البال عن الهموم، وإليه يرجع حلم المال- بالضم: سمن، والصبي وغيره: أقبل شحمه، أو هو من الحلمة- محركة: اللحمة الناتئة وسط الثدي كالثؤلول- لصرفها لون الثدي وهيئته عما كان عليه، وشجر السعدان- لأنه مرعى جيد يسمن، والصغيرة من القردان أو الضخمة- لشبهها بحلمة الثدي ودود يقع في الجلد قبل الدبغ فيأكله، لأن ذلك يغيره عن هيئته، والحالوم: ضرب من الأقط، لأنه لحراقته يغير اللسان، ودم حلام: هدر، لأنه خرج عما عليه عادة الدماء؛ والملح يصرف المملوح عن الفساد، وأما الماء الملح فمشبه به الطعم، وكذا الملح- محركاً- للون كالبياض يخالطه سواد، والملحاء: شجرة سقط ورقها، شبهت بأرض الملح في عدم الإنبات. ولما عرف الملح بالصلاح شبه به العلم فسمي ملحاً، وكذا الرضاع والحسن والشحم والسمن والحرمة والذمام وخفقان الطائر بجناحيه يصلح بذلك طيرانه ويتملح به استرواحاً إليه، وملح الشاة: سمطها، والملاح- ككتاب: الريح تجري بها السفينة، وهي أيضاً تصرفها عما يقتضيه حالها من عدم السير، ومعالجة حياء الناقة منه، وملحه على ركبته- أي لا وفاء له، لأن الملح لا يثبت هناك، أو هو سمين أو حديد في غضبه، بمعنى أنه لا صلاح له، وملحه: اغتابه، شبه بمن يتطعم الملح ليعدل مزاجه، وكذا الملاح- ككتاب، وهو هبوب الجنوب عقب الشمال، وكذا الملاحي- كفرابي وقد يشدد، وهو عنب أبيض طويل، ونوع من التين، ومن الأراك ما فيه بياض وحمرة، والملح- بضم الميم وفتح اللام من الأحاديث، وامتلح: خلط كذباً بحق، والملح- محركة: ورم في عرقوب الفرس، صرفه عن هيئته المعتادة، والملاح ككتاب: سنان الرمح، لتهيئته له بعد الوقوف للنفوذ، والسترة، لصرفها البصر عن النفوذ إلى ما وراءها، وبرد الأرض حين ينزل الغيث، لأنه يصرف حالها التي كانت عليها إلى أخرى، والملحة- بالضم: المهابة، لصرفها المجترئ عن قصده ولأن سببها صرف النفس عن هواها، والملحاء: الكثيبة العظيمة، ومنه البركة، لمنعها الماشي عن حاله في المشي، ومنه الملحة- بالفتح- للجة البحر، وملحان: الكانون الثاني لصرفه بقوة برده الزمان عما كان عليه والناس عما كانوا عليه، والملحاء: لحم في الصلب من الكاهل إلى العجز، لمنعه من رؤية عظام الصلب ورؤوس الأضلاع؛ والمحل صرف ما في الزمان عن عادته بعدم المطر والإنبات ورفاهة العيش، وكذا المحل للكيد والمكر والغبار والشدة والمحال، لما تقدم من تفسيره، ومنه ماحله: قاواه، والمتماحل: الطويل المضطرب الخلق، لخروجه عن العادة، وتمحل له: احتال، والممحل- كمعظم- من اللبن: الآخذ طعم حموضة، والمحالة: البكرة العظيمة- لصرفها بفتلها الشيء عن وجهه، والفقرة من فقر البعير- لمشابهتها والخشبة التي يستقر عليها الطيانون- لحملها إياهم ومنعها لهم من السقوط، والمحل- ككتف: من طرد حتى أعيا، لأنه صرف عما كان من عادته، ورأيته متماحلاً: متغير اللون؛ واللمح: صرف البصر عما كان عليه، ولمح البرق: لمع بعد كمونه؛ واللحم من لحمة الثوب- بالضم، كأنه سد ما حصل بالهزال من فرج، ومنه: لحم كل شيء: لبه؛ ولحم الأمر- كمنع: أحكمه، والصائغ الفضة: لأمها، وكذا كل صدع، ولحم- كعلم: نشب في المكان، كأنه وقع فيما يشبه اللحم فالتصق به فأدخله وشغله، وهذا لحيم هذا، أي وفقه وشكله- وهو يرجع إلى لحمة الثوب، واستلحم الطريق: تبعه أو تبع أوسعه- كأنه جعل نفسه مثل لحمة السدى، واستلحم الطريق: اتسع، كأنه طلب ما يلحمه أي يسده، وحبل ملاحم- بفتح الحاء: شديد الفتل، لأنه سدت فرجه كما تسد اللحمة فرج الثوب، ونبي الملحمة- من القتال، لأنه ضرب اللحم بالسيف، ومن التأليف كما يكون عن لحمة الثوب، لأن غاية قتاله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعظم خير وألفة، والتحم الجرح للبرء: التأم- من ذلك ومن اللحم أيضاً لأنه به التأم- والله أعلم.
ولما بين تعالى تصديقاً لقوله: {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} [يوسف: 105] ما له من الآيات التابعة لصفات الكمال التي منها التنزه عما لا يليق بالجلال وأنه شديد المحال، شرع يبين ضلالهم في اشتراكهم المشار إليه في قوله: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} بما هو علة لختم ما قبلها من أنه لا كفؤ له، فقال: {له} أي الله سبحانه {دعوة الحق} إن دعاه أحد سمعه فأجابه- إن شاء- بما يشاء، وإن دعا هو أحداً دعوة أمر، بين الصواب بما يكشف الارتياب، أو دعوة حكم لبى صاغراً وأجاب {والذين يدعون} أي يدعو الكافرون، وبين سفول رتبتهم بقوله: {من دونه} أي الله {لا يستجيبون} أي لا يوجدون الإجابة {لهم} أي الكافرين {بشيء} والاستجابة: متابعة الداعي فيما دعا إليه بموافقة إرادته {إلا كباسط} أي إلا إجابة كإجابة الماء لباسط {كفيه} تثنيه كف، وهو موضع القبض باليد، وأصله من كفه- إذا جمع أطرافه {إلى الماء ليبلغ} أي الماء {فاه} دون أن يصل كفاه إلى الماء- بما يدل عليه التعدية بإلى، فما الماء بمجيب دعاءه في بلوغ فيه {وما هو} أي الماء {ببالغه} أي فيه، فللكافرين بذلك دعوة الباطل كما أن الماء جماد لا يحس بدعوة هذا فلا يجيبه، فأصنامهم كذلك.
ولما كان دعاؤهم منحصراً في الباطل، قال في موضع وما دعاؤهم مظهراً تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف: {وما دعاء الكافرين} أي الساترين لما دلت عليه أنوار عقولهم بمعبوداتهم أو غيرها {إلا في ضلال} لأنه لا يجد لهم نفعاً، أما معبوداتهم فلا تضر ولا تنفع، وأما الله فلا يجيبهم لتضييعهم الأساس.


ولما كانت دعوة الأمر واضحة السبل جلية المناهج في جميع كتبه، وكلها إلى الناظرين وبين دعوة الحكم بقوله: {ولله} أي الملك الأعلى {يسجد} أي يخضع وينقاد ويتذلل كما بين عند قوله: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} [هود: 119] {من في السماوات والأرض} لجميع أحكامه النافذة وأقضيته الجارية {طوعاً} والطوع: الانقياد للأمر الذي يدعى إليه من قبل النفس {وكرهاً} قال الرازي رحمه الله: والكافر في حكم الساجد وإن أباه لما به من الحاجة الداعية إلى الخضوع، واعلم أن سجود كل صنف هو تذلله وتسخره وانقياده لما أريد له، فكل موجود جماد وحيوان عاقل وغير عاقل وروحاني وغير روحاني مسخر لأمر من له الخلق والأمر؛ وقال الشيخ محيي الدين النووي رضي الله عنه في شرح المهذب: أصله- أي السجود- الخضوع والتذلل، وكل من تذلل وخضع فقد سجد، وسجود كل موات في القرآن طاعته لما سخر له- هذا أصله في اللغة، ثم قيل لمن وضع جبهته في الأرض: سجد، لأنه غاية الخضوع.
ولما كانت الظلال مسخرة لما أراد سبحانه، لا قدرة لأحد على تغيير ذلك بوجه، قال: {وضلالهم} أي أيضاً تسجد له بامتدادها على الأرض، تقصر تارة بارتفاع الشمس وتطول أخرى بانحطاطها، لا يقدرون على منع ظلالهم من ذلك حيث يكون لهم ظلال، وذلك {بالغدو} جمع غداة، وهي البكرة: أول النهار {والآصال} جمع أصيل، دائماً في جميع البلاد، وفي وسط النهار في بعض البلاد؛ والظل: ستر الشخص ما بإزائه، والفيء: الذي يرجع بعد ذهاب ضوئه، والأصيل: العشيّ ما بين العصر إلى المغرب- كأنه أصل الليل الذي ينشأ منه.
ومادة صلا واوية ويائية مهموزة وغير مهموزة بتراكيبها الأحد عشر، وهي: صلو، صول، لصو، لوص، وصل، صلي، صيل، لصي، ليص، أصل، صأل- تدور على الوصالة، فالصلاة وصلة بين العبد وربه سواء كانت دعاء أو استغفاراً أو رحمة أو حسن الثناء من الله على رسوله، أو ذات الأركان، وصلوات اليهود لمتعبداتهم من ذلك في الأصل، والصلا: وسط الظهر منا، أو من كل ذي أربع، أو ما انحدر من الوركين، أو الفرجة بين الجاعرة والذنب- يجوز أن يكون من ذلك، لأنه يقرب من غيره من الأعضاء إذا انثنى الحيوان، ويجوز أن يكون شبه بالعود المعوج الذي يقوم بإصلائه النار، وأصلت الناقة وصليت- إذا استرخى صلواها لقرب نتاجها، والمصلّي من خيل الحلبة: الذي يجيء على إثر السابق، فإنه يواصله، وصلى الحمار أتنه: طردها وقحمها الطريق- فكأنه بذلك قومها بعد أن كانت معوجة، أو أراد مواصلتها؛ صال الرجل صولة- إذا سطا واستطال، لأن ذلك مواصلة على وجه القهر والغلبة، وكذا صال الفحل على الإبل- إذا قاتلها، والعير- إذا حمل على العانة فشلها، وصال على كذا: وثب، وصاوله: واثبه، والتصويل: إخراجك الشيء بالماء، لأن ذلك سبب الخلوص، وإذا خلص الشيء تواصلت أجزاؤه، لأن ذلك المخرج كان حائلاً بينها، والتصويل- أيضاً: كنس نواحي البيدر، لأنه سبب لتواصل ما كان متفرقاً، ومن ذلك المصول- كمنبر: شيء ينقع فيه الحنظل لتذهب مرارته، وبهاء: المكنسة، والصيلة- بالكسر: عقدة العذبة- لتواصل محل العقد بعضه ببعض وبه يتماسك اتصال بعض العمامة ببعض، والجراد يصول في مشواه، من التصويل، أي يساط، بمعنى يخلط بالتقليب فيتواصل منه ما كان متفرقاً، وصال يصيل- لغة في يصول، وصيل له- كذا بالكسر: قيض وأتيح، لأنه صار مقارناً له، ولصوت الرجل عبته وقذفته- لأنك وصلت به العيب، وفلان لا يلصو إلى ريبة، أي لا ينضمُّ إليها ولا ينضاف؛ واللوص: اللمح من خلل باب ونحوه كالملاوصة- كأنه وصلة بالنظر من موضع غير معهود، أو لأنه سبب الوصلة إلى ما يراد، ولاوص: نظر كأنه يختل ليروم أمراً، والشجرة: أراد أن يقطعها بالفأس، فلاوص في نظره يمنة ويسرة كيف يأتيها وكيف يضربها- لأن حاصل ذلك المواصلة على وجه الشدة كما تقدم في صال عليه، وتلوص: تلوى وتقلب، ومنه أليص- أي أرعش، وألاصه على الشيء: أداره عليه وأراده منه- كأنه طلب منه مواصلته، واللواص- كسحاب: الفالوذ كالملوص كمعظم، والعسل الصافي- لأنه أهل للمواصلة، ولوص: أكل، واللوص: وجع الأذن والنحر، واللوصة؛ وجع الظهر- كأنه لشدته لا مواصل للبدن سواه، ولاص: حاد- أي سلب الوصلة؛ والوصلة- التي هي مدار المادة وكأنها الحقيقة التي تشعبت منها فروعها- هي الضم وهي التئام الشيء بالشيء، وكل ما اتصل بشيء فالذي بينهما وصلة، وضدها الفرقة، والوصل: ضد القطع، والأوصال المفاصل ومجتمع العظام، لأنها موضع اتصال العظم بالآخر، والوصلان- بالكسر والضم: طبقاً الظهر، ويقال: هما العجز والفخذ، والوصيلة: الشاة تلد ذكراً ثم تلد أنثى، فتصل أخاها، وفيها خلاف كثير كله يدور على الوصلة، ووصل الشيء بالشيء: لأمه، ووصل الشيء وإلى الشي: بلغه وانتهى إليه، وأوصله واتصل: لم ينقطع، ووصله وواصله- كلاهما يكون في عفاف الحب ودعارته، والوصائل جمع وصيلة- لثياب حمر مخططة يمنية يتخذها الناس دروعاً يشق من جانبيها، كأنه لأنها توصل بغيرها أو يقطع بعضها ثم يوصل بها لتصير دروعاً، والوصيلة: العمارة والخصب والرفقة والسيف- لأن ذلك أهل لأن يوصل، والوصيلة: كبة الغزل لشدة التباس بعضها ببعض، والأرض الواسعة- لأن اتصالها لم يحل بينه جبال، وليلة الوصل: آخر ليالي الشهر، لأنها تصل بين الشهرين، وحرف الوصل: الذي بعد الروي- لأنه وصل حركة حرف الروي، ووصيلك: من يدخل ويخرج معك، وتَصِلُ: بئر ببلاد هذيل، واتصل الرجل- إذا انتسب، لأنه وصل نفسه بمن انتسب إليهم، والموصول: دابة كالدبر تلسع الناس، كأنه من السلب؛ وصليت اللحم: شويته- لأنك وصلته بالنار، وصليته: ألقيته في النار للإحراق، والصلاء- ككساء: الشواء أو النار كالصلى فيهما، وكأن منه: صلّىعصاه على النار، أي أحماها ليقومها- لأن كلاًّ منهما وصله بالنار للإصلاح، وأصليته النار: أدخلته إياها وأثويته فيها، وصلى يده بالنار: سخنها- لأنه وصلها بها، وصلي النار- كرضي: قاسى حرها، وصليت فلاناً: درايته وخاتلته وخدعته- كل ذلك لإرادة مواصلته لأمر، والصلاية- ويهمز: الجبهة، لكثرة مباشرتها الأرض في الصلاة، ومدق الطيب- لمواصلة الدق، وصليت للصيد تصلية- إذا نصبت له شركاً ليقع فيه فتصل إليه، ومنه الحديث: «إن للشيطان مصالي وفخوخاً» جمع مصلاة وفخ، والصليان- بكسر ثم تشديد- قال في مختصر العين: نبت معروف، وقال القزاز: وهو شجر له جعثن ضخم، ربما جرد وسطه ونبت ما حوله، وهو من أفضل المراعي وهو خبز الإبل، وقيل: إن الخيل تأكله ولونه أصهب- انتهى.
فسمي بذلك لكثرة مواصلة الإبل له؛ ولصيت الرجل كرميت ورضيت- إذا عبته وقذفته بالفجور، وقال القزاز: وقيل: هو أن يضيفه إلى ربية، ولصي إليه: انضم إليه لريبة؛ ولاص يليص: حاد، ولصته أليصه وألصته- إذا أزعجته أو حركته لتنتزعه- كأنه من السلب، وألصته عن كذا- إذا راودته عنه، يمكن أن يكون سلباً وأن يكون إيجاباً؛ والأصل: أسفل كل شيء- لأن جميع الأشياء واصله إليه، وأصل- ككرم: صار ذا أصل أو ثبت أو رسخ كتأصل، والرأي: جاد- كل ذلك تشبيه بالأصل، والأصيل: من له أصل، والعاقب الثابت الرأي، وقد أصل- ككرم، والأصيل: العشيّ- لأنه وصلة ما بين النهار والليل، أو الليل، أو لأنه لما آذن بتصرم النهار كان كأنه اجتثه من أصله، ومنه الأصيل- للهلاك والموت كالأصيلة فيهما، ولقيتهم مؤصلاً أي بالأصيل، وأخذه بأصلته- محركاً، وأصيلته أي كله بأصله، وأصيلتك: جميع مالك أو نخلتك، والأصل- ككتف: المستأصل، وأصله علماً: قتله- كأنه أدام مواصلته حتى أتقنه، والأصلة- محركة: حية قصيرة تساورالإنسان- قاله في مختصر العين، وفي القاموس: حية صغيرة أو عظيمة تهلك بنفخها، فإن نظرت إلى المساورة فهو من المواصلة- كما تقدم في صال عليه، وإن نظرت إلى الهلاك فهو من الاستئصال، وأصل الماء- كفرح: أسن من حمأة، واللحم: تغير، يجوز أن يكون من الوصلة أي لشدة مواصلة الحمأة للماء والهواء للحم، وأن يكون من الأصيل أي الهلاك بجملته وأصله، وأن يكون من سلب المواصلة؛ وصؤل البعير- ككرم صآلة: واثب الناس أو صار يقتل الناس ويعدو عليهم، وصئيل الفرس: صهيله- لمواصلة نغماته، وهذا وقد مضى عند قوله تعالى في سورة هود عليه السلام {صلواتك تأمرك} إشارة إلى هذا- والله سبحانه وتعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6